Red Art

مذكراتي في سجن النسا

مذكراتي في سجن النسا

كتبت هذه المذكرات بعد أن خرجت من السجن منذ ثماني سنوات، هل مضت تماني سنوات؟ كأنما كنت في الزنزانة بالأمس!

وهل أنا اليوم خارج السجن؟ لماذا إذن هذا الشعور بالاختناق؟

كانت القضبان من حديد لكنها اليوم من مادة أخرى غير مرئية 

الحرية … تناقض جذري عميق بين الحرية الحقيقة ونظام السلطة الهرمى.

يقف فوق قمة الهرم فرد واحد، صورته في كل مكان، في السماء والأرض، صوته الوحيد المسموع، رأيه الوحيد الصائب.

حوله بطانة من الأعوان، مجموعة من الرجال، وجوههم تتشابه في كل عصر.مشيتهم متعرجة، ظهورهم محنية،

عيونهم لها نَظْرَة غير مستقيمة، يزوغون عند المواجهه، يملكون وسائل الإعلام والنقد والمعارضة “في حدود المسموح” !

منذ الطفولة لا أطيع إلا عقلي أو الصوت المنبعث من أعماقي.

لا تستسلمي، لا تسيري في مواكب النفاق، لا  تكوني واحدة من القطيع أو موظفي البلاط…كونى نفسك….

اليوم لم يعد السجن جدرانا مرئية، بل أصبح شيئا أتنفسه في الهواء، حصار حول العقل ورقابة غير ملموسة 

أعيش الغربة والمنفي داخل الوطن، أسكب عقلي فوق الورق حروفا وكلمات، لكنهم يملكون قنوات الاتصال بالناس

يملؤون عقولهم بالحكايات التافهة، يستخدمون كلمة الله لإرهاب كل عقل يفكر، يستخدمون  كلمة العدالة لضرب

كل من يسعى إلى العدالة، وكلمة الديمقراطية لمصادرة الحرية، يقتلون الإبداع في المهد ويخنقون الفكر الجديد بأصابع خفية !

وفي الشارع حين أمشى أرى وجوه الشباب منكسرة حزينة، عيون ذابلة مطفأة، بطالة بلا عمل، حياه بلا أمل، وجوه الفتيات شاحبة، الخطوة متعثرة، العقل داخل الرأس ملفوف بقماش!

وهنا التمرد عورة، هنا الوعى إثم، هنا المعرفة خطيئة، هنا الرأي العام غائب، الناس غارقة في هموم البحث عن الخبز

هنا يدخل الإنسان السجن في الظلام بلا جريمة، هنا يموت الإنسان قبل الأوان، هنا يختنق العقل وتدفن الموهبة وشجاعة الإبداع

لكنى لا أعرف اليأس، في خيالي حلم حياتي، أن أكتب كلماتي ويقرأها الناس.

…سوف يقرأها الناس اليوم أوغدا أو بعد غد..

 كانت تلك الأسطر السابقة هي مقدمة كتاب بعنوان (مذكراتي في سجن النسا) كتبته  الطبيبة و المفكرة والمناضلة والكاتبة

“غير المحبوبة من أغلب المصريين” (نوال السعداوى) كتبته عام1990 بعد خروجها من السجن 

كنت قد قرأت لها الكثير من كتبها قبل أن ألقاها في ميدان التحرير خلال ثورة 25 يناير2011 وتحديدًا في يوم موقعة الجمل

امرأة في الثمانين، قصيرة، يحيط رأسها هالة من الشعر الأبيض ترفض أن تصبغه كي تبدو أصغر

إذا حسبت عمرها بالطاقة والحماس اللذان يخرجان من عينيها فهي لن تتعدى الثلاثين!

قبل الهجوم على ميدان التحرير بوقت قصير تعلقت بذراعي بسعادة لتسير بين جموع الشعب الحر

هذا يرحب بها وذاك يشتمها ويشتمني وآخر يوقفنا كي يعترض على أفكارها ثم يُقبّل يديها باحترام … رأيت العجب وأنا أسير معها! كنت خائفة من الاعتداء علينا وكانت مبتسمة هادئة تحتوى ذراعي وكأنها تطمئنني 

وفجأة حدث الهجوم على الميدان وراح الكثيرون يهربون منه وكان من الطبيعي أن تترك هي أيضا الميدان، لكنى فوجئت بها تهرول في اتجاه “البلطجية” الذين اقتحموا الميدان بالخيول والجمال والعصا، أوقفتها وأنا اصرخ فيها… أين تذهبين؟

قالت بابتسامة ودودة … أنا ذاهبة اليهم فإنهم إذا رأوا امرأة عجوز تقف أمامهم فيسكفوا عن الاعتداء عليكم

امرأة في الثمانين تريد الدفاع عنا! مؤكد إنها إنسانه غير عادية، فأنا أكاد أجزم أنها أشجع  إنسان رأيته في حياتي

إنسانه تعشق تراب الوطن، تتمنى الخير لأهلة، إنسانه لم تخضع يومًا لمال أو شهوة، لم تنافق أحدًا

تحملت السجن بصبر جميل، لا تقول إلا الصدق، لا تقول إلا ما تؤمن به بعد تفكير وتحليل وصراع طويل 

قابلتها في عدد من المواقف كالذهاب للمصابين بمستشفي معهد ناصر وكانت كالوحش في وجه المدير من أجل حقوق المصابين وكان كالفأر أمامها لأنه فاسد مثل سيده الرئيس المخلوع مبارك

هذه المرأة تم تشويه سمعتها والسخرية منها وهي التي جاهدت الجهاد الأكبر وهو قول كلمة حق في وجه سلطان جائر!

ألم  يحن الأوان  لوضع معايير عقلانية لتقييم البشر؟ ألم  يأتي الوقت كي يكون الإنسان المحبوب هو الإنسان الشريف المتواضع الصادق  الأمين بدلا من… المشهور الغني “اللى عامل عمليات نفخ؟”

ألم يحن الوقت كي نَكُف عن قتل مفكرينا ثم نعود نشكو الظلام؟

اقروا كتبها قبل أن تذبحنها بألسنتكم واقبلنها أواختلفوا معها، واعلموا أنها لم تحرض يومًا على الكفر

وإنما حرضت على التفكير والثورة على الظلم والتحرر من الخوف وعدم عبادة البشر، فإن كان هذا كفرا،

فيمكنني  الآن أن أفهم بارتياح المقولة التي تقول …أن هذا الشعب مؤمن بطبعه!

رانيا رفعت