كانت المسابقة الكبيرة، المسابقة العظيمة التي لا تتكرر إلا كل خمسين عاما. هي المسابقة التي يربح فيها من يستطيع الوصول إلى الكشاف الكبير فوق المنارة العالية ذات العمدان الحديدية المتشابكة.
كان لابد من أن يسير المتسابقون كل على حدة مسافة طويلة في الظلام فهذا هو الشرط الأول فممنوع أن يمسك أحد بآخر، وممنوع أن ينقذ أحد آخر إذا ما ضل، فمن يضل أو يسقط… فهو خاسر!
استعد المتسابقون للسباق، الكل متحمسًا، يحلم بالفوز العظيم وكتابة اسمه على المنار الخالد.
بدأ السباق…
جرى الجميع في الظلام… دقائق، وبدأت تسمع صيحات ألم، فقد ارتطم أغلبهم بالحوائط الصلبة ولكن… السباق لم يتوقف!
بعد قليل… سمعت تأففات قوية وقد امتلأ المكان برائحة عفنة جعلت الكثير يهربون، ولكن… السباق لا زال مستمرًا!
إن المتسابقين في تناقص مستمر، فالمعوقات كثيرة والطريق طويل والأمل يخفت –شيئا فشيئا– والظلام يغلف المكان!
• “ما هذا؟ صوت كلاب؟ بل ربما… صوت ذئاب! لا… لم نتفق أن يكون بالسباق كلاب أو ذئاب!”
• “ومن تظنون أنفسكم كي تتفقوا؟ أيها الحمقى لقد دخلتم السباق سواء رضيتم أم أبيتم وسوف تمرون بهذا الطريق فاستمروا… لا مفر!”
•” نعم ولكن ذئابا!!؟“
• “اصمتوا واستمروا…“
يجرى المتسابقون في فزع وقد ازدادت الفوضى بالمكان وتعالت بعض الصرخات وسالت الدماء… كان الجميع في حالة من الرعب، لا يقوون فيها على التفكير…
الكل عدا واحد…
كان يسير بثبات، بهدوء، يتنفس بعمق ويمسك قلبه بين راحتيه… تصادمت الأجساد به، وحامت حوله الذئاب، لكنه لم يجر، بل ظل يتقدم وهو ينظر نحو الأمام.
تتعثر قدمه بالمخلفات البشرية والحيوانية، تغوص أحيانا في بقع من الطين أو الدماء لا يعرف مصدرها، تقتحم أنفه الروائح النتنة، وتخترق أذنه آهات ألم. تدمع عيناه في صمت فيمسحها بيده ويستمر في المشي…
شيئا فشيئا، تضاءلت الأصوات من حوله، وصارت الأرض أكثر استواء.
•”أين أنا؟ هل ضللت؟ أين الجميع؟“
لم يجد إجابة على أسئلته وقد أخذ منه التعب غايته، وصار قلبه يرتجف كطفل مبلل.
تشابكت أصابعه باحتواء وأخذ يردد الصلوات الواحدة تلوإلاخرى حتى اصطدم بجسد حديدي. حاول أن يتخطاه فلم يجد طريق… فراح يتحسسه.
إن قضبانه شديدة الصلابة…
•”لابدَّ أن أمر منه، إذن لابدَّ أن أصعد“
أمسكت يداه بالقضبان بقوة وراح يصعد خطوة تلو أخرى وهولا يعلم كم مر من الوقت، لا يريد أن يفكر كي لا يتوقف. المزيد من الصبر، المزيد من الإيمان فلا طريق غير هذا.
أخيرًا وصل للقمة، وقد راح قلبة يدق بعنف وقد اعترى جسده رعشة مفرحة وهو يتحسس مِقْبَض الكشاف.
•”هل وصلت فعلا؟ أهذا هو الكشاف؟ ماذا أفعل الآن؟ لابدَّ أن أضيئه، لابدَّ أن أجد طريقة ما“
راح يبحث حوله حتى وجد سلك طويل مربوط في كوع حديدي، راح يفك السلك من حوله ثم أدخله في ثقب صغير كان ينبض ضوءا أخضرًا خافتا، فمَا أن وضع السلك بالثقب حتى غرق المكان في النور.
نور بقوة عشر شموس. غطى عينيه بيديه، وأنفاسه تعلو وتخفت. شيئا فشيئا بدأت عينه تعتاد على النور، فقام من مكانه وأخرج جسده من المكان الضيق إلى المكان الأوسع ليرى الطريق الذي مر به.
ما أبشع ما يراه. أجساد ميتة تلعقها الحيوانات الضالة والقمامة في ارتفاع الأهرام. كل شيء قبيح، موحش، قاتم ولكن. هناك شيء بالطريق مختلف هناك أشياء صغيرة تتحرك بسرعة وتحدث ضوضاء مثيرة. انهم أطفال!
ما الذي يفعلون؟ انهم يلعبون. يلعبون في القمامة وبالقمامة، يصنعون منها أشكالا تبدو جميلة، يقفزون في برك المياه الصغيرة ويقذفون بعضهم ببقايا الطين. إنهم يمرحون!
تنفس الرجل بعمق وقال: “أكان هذا هو السر؟ أهذا ما جعل هؤلاء الصغار يحيون والجميع يموتون؟ “
ضحك الرجل ضحكة كبيرة وصلت للسماء وسمعتها النجوم، فأضاءت أنوارها لتلهم كل من يحمل بقلبه دمية صغيرة!
رانيا رفعت