Red Art

حماري المهذب

حماري المهذب

بينما كنت أقرأ ببلكونه شقتي ببورسعيد في الثالثة فجرًا، إذ سمعت “نهيق” حمار مزعج، لم أهتم في البداية وقلت ربما هي عربة “كارو” تمر!

دقائق وعاد “النهيق” ولكن هذه المرة كان يبدو في أذني غريب. فقد كان أشبه بالنحيب!

استغربت مما شعرت، فتركت كتابي ونظرت إلى الشارع أبحث عن هذا الحمار والذي سرعان ما التقطته عيني. حمار أبيض. صغير نوعا، متسخ بعض الشيء. واقفا وحده بجوار صندوق القمامة الكبير يبحث بفمه عن أى طعام وعندما لا يجد، يرفع رأسه عاليا وينهق نهيقا رقيقًا يجرح القلوب النبيلة!

قررت أن أنزل إليه أنا وأختي، فجهزت لنا الوالدة خبز في كيس وماء في جردل.

اقتربنا من الحمار الهادىء بحذر ووضعنا أمامه الطعام والماء ولم تمر ثوانٍ كثيرة حتى التهم كل الخبز، ثم سار بخطًى بطيئة مبتعدًا عنا وهو يطلق “نهيقا” ضعيفًا. كالأنين.

عصر اليوم التالي. وبينما كنت آكل، سمعت “النهيق النحيب ” مرة أخرى، قفزت نحو الشباك ورحت أبحث بعيني عن الحمار، فوجدته وحيدا يبحث عن طعام! فتحت الثلاجة فوجدت 6 أرغفة فقط، قررت أن أقتسمهم معه وبسرعة حملت الطعام وجردل الماء إليه.

هل خُيّل إليّ أنه سَعِد برؤياي؟ ربما. لكنى بمجرد أن وضعت الماء، إذا به يشرب بنهم. ثم اقترب منى بود متجاهلًا كيس الطعام. وفهمت. فالتقطت الخبز وأطعمته بيدى.

كان الجيران قد توافدوا إلى البلكونات يشاهدون في تعجب هذا الحدث العظيم!

حدث… أن إنسان يُطعم حيوان جائع! كان المارة أيضا يشاهدون هذه الأعجوبة الكونية ما بين مدهوش وما بين ممتن. حتى توقف البعض أخيرًا ليستفسروا.

قلت لهم ببساطة… ربما صاحبه قد مات وأنه الآن مسئوليتنا جميعا.

في بداية الأمر بدت الفكرة عجيبة لهم… حمار غريب عننا، وليس من أهلنا، مسئول مننا!

إلا أني بمجرد أن أنعشت ذاكرتهم و ذكّرتهم أننا خلفاء الله في الأرض ومسئولون عن جميع خلقه حتى بدأت عيونهم تلمع بالحقيقة المنسية وهي أنهم البشر وليسوا الحمار!

وأخيرا اتفق الجميع على أن يشتروا يوميًا خضرة وخبز للحمار، وقبل أن يتركوني سالتهم… لماذا لم تفعلوا هذا وحدكم؟ أجابتني سيدة باستحياء” أصلى خفت الناس تتريأ عليّ لما أأكل حمار!”

من الناس خافت ولم تخف من الله أن يسألها يوم الحساب عمّا فعلت لحيوان جائع عاجز!

يا له من شعب متناقض لن أفهمه أبدا!

أكمل (فستق) وجبته “وهو الاسم الذي اخترته للحمار” وأنا أحدثه وأربت على رأسه قائلة، أن الله لن يتخلى عنه وهو يعلم كم قاسيَ وجاع وشعر بالوحدة وسوف يعوضه خير وأخبرته أن الحكومة تحارب الإرهاب لهذا لا وقت لديها لشكوى مواطن بساقين أومواطن ب 4 سيقان! وأكدت له أن بعض الناس لديهم رحمة لكنهم يفتقرون فقط إلى المبادرة، فلا مانع من أن يشفق عليهم أحيانا ويلتمس لهم العذر لأن مشاعرهم مقيدة بالخوف المستمر والشعور بالعجز!

توقف (فستق) عن الأكل فجأة ثم أشاح بوجهه عنى بعض الوقت ثم عاد ونظر إليّ طويلًا بعيون دامعة حزينة ارتعش لها قلبي ثم مشى بوقار مبتعدًا عنى.

ظللت واقفة لحظات لا أعيي ما حدث! هل  فهم  كلامي حقا؟ هل ضايقه طلبي من أن يشفق على البشر؟ أم أنه شعر بالحزن من أجلهم؟ أم أن حديثي عن الحكومة قد ذكّره بحقوقه  المهدره “فانسدت نفسه”!

أخذت أضحك في “سرّى” من تحليلاتي لتصرفات الحمار وما قد يفكر فيه وقد شعرت بحنو وحب شديدان نحوه حتى أنى تمنيت لو استطع استضافته بمنزلي لبعض الوقت! كدت أنفجر ضاحكة وأنا أتخيل رد فعل أهلي والجيران…

وضعت باقي الخبز على الأرض بجوار جردل الماء حتى إن عاد وجده وأنا على ثقة أنه سيعود.   صعدت إلى شقتي وأنا لازلت أضحك من فكرتي، وأطليت من البلكونة ربما عاد ليكمل طعامه، لكنى لم أر الحمار إنما رأيت رجلا رث الثياب قد اقترب ببطء من جردل الماء ثم التقط بسرعة قطع الخبز الملقاه على الأرض وراح يأكلها بنهم وهو يتلفت حوله في ذعر!

تسمّر كل شيء حولى. توقفت أنفاسي… َثقُلَ الهواء… نظرت إلى السماء نَظْرَة طويلة صامتة

ثم اتجهت نحو فراشي، أغمضت عيني… آهات مخنوقة ونشيج وبكاء… دفنت رأسي وأحكمت الغطاء.

رانيا رفعت